تفسير قوله تعالى: "لا يفترون" في ضوء كلام العرب

تفسير قوله تعالى: ﴿ لَا يَفْتُرُونَ ﴾

(في ضوء كلام العرب)[1]

فَتَرَ يَفْتِرُ ويَفْتُرُ فُتورًا وفَتَّرَ: سكن عن حدَّته، ولان بعد شدَّته؛ قال أعشى أبي ربيعة:

الله ربي لم أشركْ به أحدًا وكلُّ شيء باطلٌ عزر والعرشُ يحمله رهطٌ ثمانيةٌ موكلون به ما مثلهم نفر له مطيقون قوَّاهم وأيَّدهم ربي فما ضعفوا عنه ولا فتروا[2]

أي: هم أقوياء وغير ملولين.

وقال عدي بن زيد العبادي:

لهوتُ بهن بين سرٍّ ورَشدةٍ ولم آل عن عهدِ الأحبة خادعا يُسارقنَ م الأستار طرفًا مُفَتَّرًا ويُبرِزن من فتقِ الخدورِ الأصابعا[3]

والطرف المفتَّر هو الفاتر غير الحاد وعندي ساجٍ حياءً.

وقال ساعد بن جؤية الهذلي:

أخيلُ برقًا متى حابٍ له زَجَل إذا يفتَّر من توماضه حَلَجا[4]

وقال ابن مقبل يصف غيثًا:

تأملْ خليلي هل ترى ضوءَ بارقٍ يَمانٍ مرتْه ريحُ نجدٍ ففتَّرا[5]

ومنه قوله تعالى:

﴿ وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ * يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ ﴾ [الأنبياء: 19، 20].

وأوضحه أمية بن أبي الصلت في قوله التالي:

ملائكةٌ لا يفترون عبادةً كروبيَّةٌ منهم رُكوعٌ وسُجَّد فساجدُهم لا يرفعُ الدهرَ رأسَه يعظِّمُ ربًّا فوقه ويُمجِّد وراكعهم يعنو له الدهرَ خاشعًا يردِّدُ آلاءَ الإله ويحمد[6]

وقالت الخنساء:

أقام جناحَي ربعها وترافدوا على صعبها حتى استقام عسيرُها أهلَّ بها وكفُ الدماء ورعدُها هماهمُ أبطال قليل فتورُها[7]

ففتور المطر: تحسره وقليله ضده، واستعار الدماء بالمطر فكأن الدماء مطرت غزيرًا.

وقال النابغة الذبياني:

إذا الركابُ ونتْ عنها ركائبُها تشذَّرتْ ببعيدِ الفتر خطَّار[8]

فبعيد الفتر يعني فاقد الفتر والنشيط.

وقال امرؤ القيس يصف الحبيب:

بَرَهرَهةٌ رُودةٌ رَخصةٌ كخُرعوبةِ البانةِ المنفطر فَتورُ القيام قطيعُ[9] الكلام تفترُ عن ذي غَروبٍ خِصَر[10]

"فتور القيام"؛ أي: تقوم بضعف وكسل؛ ويماثله قول أعشى همدان التالي:

وضاق عن الساق خلخالُها فكاد مُخَدُّمُها يندرُ[11] فَتورُ القيام رخيمُ الكلا م يُفَزِّعُها الصوت إذ تُزجَر وتُنمَى إلى حسب شامخ فليست تُكَذَّبُ إذ تفخرُ[12]

وكذا الفتر في المشي كالمشي الهوينا؛ كما قال عمر بن أبي ربيعة القرشي:

بكلِّ كعابٍ طفلةٍ غيرِ حمشةٍ وتمشي الهوينا ما تُجاوزه فترا[13]

وقال عمر بن أبي ربيعة القرشي:

ما لقلبي كأنه ليس مني وعظامي أخال فيهن فترا من حديثٍ نمى إليَّ فظيع خِلتُ في القلب من تلظِّيه جمرا[14]

فالفتر هنا ضعف؛ ويعنيه قول ابن مقبل التالي عما أضرَّ به الأمراض بعد أنْ شَابَ:

أرمي النحورَ فأشويها وتثلمني ثَلمَ الإناء فأغدو غيرَ منتصر في الظهر والرأس حتى يستمرَّ به قصرُ الهِجار وفي الساقينِ كالفَتَر[15]

فأصبحت ساقاه غير قادرتين على تحمُّل جسده.

وقال الكميت الأسدي:

أهينُ لهم رحلي وأعلم أنما يؤول حديثُ الركب حين يؤوب وأقفي بما شاؤوا من الثقل ناقتي وإنْ كان فيها فترة ولغوب[16]

فالفترة هنا ضعف.

وقال النابغة الذبياني:

كأنَّ الشذرَ والياقوتَ منها على جيداء فاترة البغام[17]

والبغام: صوت الظبية، ففاترة البغام: ذات صوت خافت غير عالٍ.

وقال أبو الفضل الكِناني يقول عن فرس ضعيف غير نشيط:

ومُستلحَمٍ يخشى اللحاقَ وقد تلا به مُبطئ قد منَّه الجرْيُ فاتر ضعيفُ القوى رِخوُ العظام كأنها حبالٌ نضتْه مُبطئاتٌ محامر[18]

فالفاتر هو غير نشيط.

وقال الأعشى الكبير:

ولكن على الحمد إنفاقُه وقد يشتريه بأغلى الثمن ولا يدع الحمد أو يشتريه بوشك الفتور ولا بالتَوَن[19]

فالفتور هنا مرادف التواني.

فالفتور كما يعني الضعف فكذلك يعني العجز والكسل ويضدُّه القوة والنشاط.

وتوصف الفتاة بفتور طرفها لحيائها؛ كما قال عدي بن زيد العبادي:

إنَّ شغل الصابيات من الأس تار طرفٌ يُصبي وفيه فتور[20]

وقال جابر بن الثعلب الطائي:

كأنَّ الفتى لم يَعرَ يومًا إذا اكتسى ولم يك صعلوكًا إذا ما تموَّلا ولم يك في بؤس إذا بات ليلةً يناغي غزالًا فاتر الطرف أكحلا إذا جانبٌ أعياك فاعمِدْ لجانب فإنَّك لاقٍ في بلادٍ مُعَوَّلا[21]

وقال عمر بن أبي ربيعة القرشي:

نظرتْ إليك بعينِ مُغزِلةٍ حوراءَ خالط طرفَها فَتر[22]

وقال الأعشى الكبير:

فبان بحسناءَ برَّاقةٍ على أنَّ في الطرف منها فتورا[23]

وقال قيس بن ذريح:

خذوا بدمي إن متُّ كلَّ خريدة مريضة حفن العين والطرفُ فاتر[24] ولكن فتور الطرف عيب على الفتى؛ فقال هدبة بن الخشرم العذري: وما كنتُ ممن أرَّثَ الشرَّ بينهم ولا حين جَدَّ الشرُّ ممن تخشَّعا وكنتُ أرى ذا الضغن ممن يكيدني إذاما رآني فاترَ الطرف أخشعا[25]

وقالت ليلى الأخيلية عن توبة بن الحمير الخفاحي الذي كان شجاعًا فتَّاكًا:

وقد كان موهوبَ السِنان وبيِّنَ الل سان ومدلاجَ السرى غير فاتر[26]

ونحمده تعالى على أنه وفَّقنا لشرح كلمة من كلمات كتابه العزيز.

المصادر والمراجع

1- القرآن الكريم.

2- ديوان ابن مُقبِل، تحقيق: د. عزة حسن، دار الشرق العربي، بيروت، لبنان، 1995م.

3- ديوان أعشى همدان، تحقيق: د. حسن عيسى أيو ياسين، دار العلوم للطباعة والنشر، الرياض، ط1، 1983م.

4- ديوان الأصمعيات، تحقيق: أحمد محمد شاكر وعبدالسلام هارون، دار المعارف بمصر، ط3.

5- ديوان الأعشى الكبير بشرح محمود إبراهيم محمد الرضواني، وزارة الثقافة والفنون والتراث، إدارة البحوث والدراسات الثقافية، الدوحة، قطر، 2010م.

6- ديوان الخنساء، اعتنى به وشرحه: حمدو طمَّاس، دار المعرفة، بيروت، 2004م.

7- ديوان الكميت بن زيد الأسدي، جمع وشرح وتحقيق: د. محمد نبيل طريفي، دار صادر، بيروت، ط1، 2000م.

8- ديوان النابغة الذبياني بشرح وتقديم: عباس عبدالساتر، دار الكتب العلمية، بيروت، 1996م.

9- ديوان امرئ القيس، ضبطه وصحَّحه: الأستاذ مصطفى عبدالشافي، دار الكتب العلمية، بيروت، 2004م.

10- ديوان أمية بن أبي الصلت، جمع وتحقيق ودراسة: د. عبدالحميد السطلي، دمشق، 1974م، د.ت.

11- ديوان عدي بن زيد العبادي، تحقيق وجمع: محمد جبار المعيبد، شركة دار الجمهورية للنشر والطبع، بغداد، 1965م.

12- ديوان عمر بن أبي ربيعة المخزومي القرشي، مطبعة السعادة بجوار محافظة مصر.

13- ديوان عمر بن أبي ربيعة، تحقيق وتقديم: د. فوزي عطوي، دار صادر، بيروت، 1980م.

14- ديوان قيس بن ذُرَيح، شرح: عبدالرحمن المصطاوي، دار المعرفة، بيروت، لبنان، ط2، 2004م.

15- ديوان ليلى الأخيلية، جمع وتحقيق: خليل إبراهيم العطية وجليل العطية، دار الجمهورية، بغداد، 1967م.

16- شاعرات العرب في الجاهلية والإسلام، جمع وترتيب: بشير يموت، المطبعة الوطنية، ط1، 1934م.

17- شرح ديوان الحماسة للعلامة التبريزي، دار القلم، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى.

18- الصبح المنير في شعر أبي بصير، مطبعة آدلف هلزهوسنين، بيانة، 1927م.

19- لسان العرب لابن منظور الإفريقي، دار صادر، بيروت، د.ت.